الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، من هداه فهو السعيد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، أحمده سبحانه وأشكره، والشكر من أسباب المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أشرف من أضلت السماء، وأكرم من أقلت البيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أهل التوفيق والتسديد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الإخوة ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ فاتقوه رحمكم الله، فتقواه أقوم وأقوى، وأعدوا واستعدوا فالأوقات تمضي، والأعمار تنقضي، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة. وجنة ربي لا تنال بالتمني، ولا بشرف النسب، كما لا تنال بعمل الآباء ولا الأجداد، ولا بكثرة الأموال ولا الأولاد: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
أيها المسلمون: أمة الإسلام! أمة المصطفى! اصطفاها ربها واصطفى لها، واختارها واختار لها: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78] اصطفى لها الدين، واصطفى لها محمداً صلى الله عليه وسلم، خياراً من خيارٍ من خيار، أكمل لها الدين، وأتم عليها النعمة، ورضي لها الإسلام دينا: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الحج:78]
امتن الله عليها بخصائص، وخصها بفضائل لم تكن للأمم قبلها ببركة هذا النبي الكريم: {أعطيت خمساً لم يعطها أحدٌ من الأنبياء قبلي } اختار من البقاع مكة ، ومن الشهور رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، وخص عشر ذي الحجة بمزيدٍ من الفضل، وليوم عرفة من الشرف مالا يخفى، ويوم النحر يوم الحج الأكبر. هناك مواسم للاجتهاد في الطاعات، ومناسبات للإقبال على العبادات، تتكرر وتدور، لتبدد الفتور، وتجدد النشاط، وتوقظ الغافلين، يقبل المقبلون فيها على ربهم، فيزدادون حباً وقرباً، مواسم تتجدد لينفك العبد من الانهماك في أشغاله، ويتحلل فيها من قيود مهنته وأعماله.
أيها الإخوة: وإن من هذه الأيام ومن مواسم النفحات يوماً جل بين الأيام قدره، وعلا في الإسلام ذكره، إنه عنوان الملة، وعيد أهل الإسلام، هدى الله له أمة الإسلام، وأضل عنه الأمم الأخرى، فحقٌ على الأمة أن تعرف قدره، وتحفظ منزلته، إنه يوم بدء الخليقة، ويوم منتهى الدنيا، إنه يوم الجمعة، عيد الإسلام، يشرق على المسلمين ليؤلف بينهم بالمودة، ويربطهم برباط الجماعة، ويظهر فيهم الوحدة والعزة.
ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد } وفي لفظ مسلم : {أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا؛ فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة } وفي المسند والسنن من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: {من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم تبلغني } وعند مسلم : {خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة } فهو أعظم مجامع المسلمين بعد يوم عرفة
فيا أيها الإخوة: هذا هو يوم الجمعة بفضله ومنزلته، وذكره وخصائصه، وذلكم هو الدين بحكمه وحكمته، فليس الدين بصومعة منعزلة، ولا الدنيا بسوقٍ منفصلة، لكن المسجد منارة السوق، والسوق عمارة المسجد. المسلمون إذا فرغوا من صلاتهم لم ينقطعوا عن الصلة بربهم، ولم يغفلوا عن ذكره: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] عملٌ وكد، ونشاطٌ وكسب، وذكرٌ وشكر، لا انفصام بين ذلك ولا افتصال.
كان عراق بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف بباب المسجد ثم قال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك فأنت خير الرازقين.
اهتمامٌ وعناية حتى لا يكون الدين رسوماً جامدة، ولا حركات جافة، المستمسكون بالدين، قومٌ صالحون يقبلون على مواطن العظة، ومجالس الذكر بأفئدة واعية، وجلودٍ مقشعرة، يجدون راحتهم ولذتهم وسعادتهم في إطالة اللحظات في التلاوة والمناجاة.
فلماذا -يا عبد الله- لا تتحلى بحلل الصالحين، وتتزيا بزي المتقين، وتكثر من ذكر الله وتلاوة كتابه، وتكثر أيضاً من الصلاة والسلام على حبيبه وخليله محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتحرص على حفظ إخوانك، فلا تفرق بين اثنين، وتصالح من خاصمت، وتتقي الله عسى أن تربح وتفلح؟ فكمل نفسك بالمحامد وارعها في دواوين المتقين.
واعلم -وفقك الله- أن أهل العلم رحمهم الله قد نصوا على أنه لا يجوز السفر يوم الجمعة لمن تلزمه صلاة الجمعة بعد دخول وقتها إلا إذا كان سيؤديها في مسجدٍ في طريقه.
ولا تنسى -وفقني الله وإياك- أن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : {إن في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائمٌ يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه } وأرجى أوقاتها ساعتكم هذه، وما بين العصر إلى غروب الشمس.